فصل: ذكر مسير بهاء الدولة إلى الأهواز وما كان منه ومن صمصام الدولة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك آل المسيب الموصل:

لما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان، كما ذكرناه، سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه، وكانوا قد تفرقوا، فطمع فيه أبو الذواد محمد ابن المسيب، أمير بني عقيل، وكان صاحب نصيبين حينئذ، كما ذكرناه، فثار بأبي طاهر، فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم، وقتلهم، وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولى الأمور، فسير إليه قائداً من قواده.
وكان هاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأقام نائب بهاء الدولة، وليس له من الأمر شيء ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذواد، وسيرد من ذكره وذكر عقبه ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.

.ذكر مسير بهاء الدولة إلى الأهواز وما كان منه ومن صمصام الدولة:

في هذه السنة سار بهاء الدولة عن بغداد إلى خوزستان عازماً على قصد فارس، واستخلف ببغداد أبا نصر خواشاذه، ووصل إلى البصرة ودخلها، وسار عنها إلى خوزستان، فأتاه نعي أخيه أبي طاهر، فجلس للعزاء به، ودخل أرجان فاستولى عليها وأخذ ما فيها من الأموال، فكان ألف ألف دينار وثمانية آلاف ألف درهم، ومن الثياب والجواهر ما لا يحصى، فلما علم الجند بذلك شغبوا شغباً متتابعاً فأطلقت تلك الأموال كلها لهم ولم يبق منها إلا القليل. ثم سارت مقدمته وعليها أبو العلاء بن الفضل إلى النوبندجان، وبها عساكر صمصام الدولة، فهزمهم، وبث أصحابه في نواحي فارس، فسير إليهم صمصام الدولة عسكراً وعليهم فولاذ زماندار، فواقعهم، فانهزم أبو العلاء وعاد مهزوماً.
وكان سبب الهزيمة أنه كان بين العسكرين وادٍ وعليه قنطرة، وكان أصحاب أبي العلاء يعبرون القنطرة ويغيرون على أثقال الديلم، عسكر صمصام الدولة، فوضع فولاذ كميناً عند القنطرة، فلما عبر أصحاب بهاء الدولة خرجوا عليهم فقتلوهم جميعهم، وراسل فولاذ أبا العلاء وخدعه، ثم سار إليه وكبسه، فانهزم من بين يديه وعاد إلى أرجان مهزوماً، وغلت الأسعار بها.
ولما بلغ الخبر إلى صمصام الدولة سار عن شيراز إلى فولاذ، وترددت الرسل في الصلح، فتم على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرجان، ولبهاء الدولة خوزستان والعراق، وأن يكون لكل واحدٍ منهما إقطاع في بلد صاحبه، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز.
ولما سار بهاء الدولة عن بغداد ثار العيارون بجانبي بغداد، ووقعت الفتن بين السنة والشيعة، وكثر القتل بينهم، وزالت الطاعة، وأحرق عدة محال، ونهبت الأموال، وأخربت المساكن، ودام ذلك عدة شهور إلى أن عاد بهاء الدولة إلى بغداد.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قبض بهاء الدولة على وزيره أبي منصور بن صالحان، واستوزر أبا نصر سابور بن أردشير قبل ميره إلى خوزستان، وكان المدبر لدولة بهاء الدولة أبا الحسين المعلم، وإليه الحكم.
وفيها توفي أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، وزير العزيز، صاحب مصر، وكان كامل الأوصاف، متمكناً من صاحبه، فلما مرض عاده العزيز صاحب مصر، وقال: وددت أنك تباع فأبتاعك بملك، فهل من حاجة ترضى بها؟ فبكى، وقبل يده، ووضعها على عينه، وقال: أما فيما يخصني فإنك أرعى لحقي من أن أوصيك بمخلفي، ولكن فيما يتعلق بدولتك سالم الحمدانية ما سالموك، واقنع منهم بالدعة، وإن ظفرت بالمفرج فلا تبق عليه.
فلما مات حزن العزيز عليه، وحضر جنازته، وصلى عليه، وألحده بيده في قصره، وأغلق الدواوين عدة أيام، واستوزر بعده أبا عبدالله الموصلي، ثم صرفه، وقلد عيسى بن نسطورس النصراني، فمال إلى النصارى وولاهم، واستناب بالشام يهودياً يعرف بمنشا، ففعل مع إليهود مثل ما فعل عيسى بالنصارى، وجرى على المسلمين تحامل عظيم.
وفيها، في ربيع الأول، قلد الشريف أبو أحمد والد الرضي نقابة العلويين والمظالم، وإمارة الحج، وحج الناس أبو عبدالله أحمد بن محمد بن عبدالله العلوي نيابةً عن النقيب أبي أحمد الموسوي.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن الفقيه الحنفي، ومولده سنة عشرين وثلاثمائة.
وفيها توفي عبدالله محمد بن عبد البر النمري بالأندلس، والد الإمام أبي عمر بن عبد البر. ثم دخلت:

.سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة:

.ذكر القبض على الطائع لله:

في هذه السنة قبض الطائع لله، قبضه بهاء الدولة، وهو الطائع لله أبو كر عبد الكريم بن الفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله ابن أبي أحمد الموفق بن المتوكل.
وكان سبب ذلك أن الأمير بهاء الدولة قلت عنده الأموال، فكثر شغب الجند، فقبض على وزيره سابور، فلم يغن عنه ذلك شيئاً.
وكان أبو الحسن بن المعلم قد غلب على بهاء الدولة، وحكم في مملكته، فحسن له القبض على الطائع، وأطمعه في ماله، وهون عليه ذلك وسهله، فأقدم عليه بهاء الدولة، وأرسل إلى الطائع وسأله الإذن في الحضور في خدمته ليجدد العهد به، فأذن له في ذلك، وجلس له كما جرت العادة، فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كثير، فلما دخل قبل الأرض، وأجلس على كرسي، فدخل بعض الديلم كأنه يريد أن يقبل يد الخليفة فجذبه، فأنزله عن سريره، والخليفة يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون؟! وهو يستغيث ولا يلتفت إليه، وأخذ ما في دار الخليفة من الذخائر فمشوا به في الحال، ونهب الناس بعضهم بعضاً، وكان من جملتهم الشريف الرضي فبادر بالخروج فسلم وقال أبياتاً من جملتها:
من بعد ما كان ربّ الملك مبتسماً ** إليّ أدنوه في النجوى ويدنيني

أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه، ** لقد تقارب بين العزّ والهون

ومنظرٌ كان بالسّراء يضحكني؛ ** يا قرب ما عاد بالضّراء يبكيني

هيهات أغترّ بالسّلطان ثانيةً، ** قد ضلّ ولاّج أبواب السلاطين

ولما حمل الطائع إلى دار بهاء الدولة أشهد عليه بالخلع، وكان مدة خلافته سبع عشرة سنة وثمانية شهور وستة أيام، وحمل إلى القادر بالله لما ولي الخلافة، فبقي عنده إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين، ليلة الفطر، وصلى عليه القادر بالله، وكبر عليه خمساً.
وكان مولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان أبيض، مربوعاً، حسن الجسم؛ وكان أنفه كبيراً جداً، وكان شديد القوة، كثير الإقدام، اسم أمه عتب، وعاشت إلى أن أدركت أيامه، ولم يكن له من الحكم في ولايته ما يعرف به حال يستدل به على سيرته.

.ذكر خلافة القادر بالله:

لما قبض على الطائع لله ذكر بهاء الدولة من يصلح للخلافة، فاتفقوا على القادر بالله وهو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد، وأمه أم ولد اسمها دمنة، وقيل تمنى، وكان بالبطيحة، كما ذكرناه، فأرسل إليه بهاء الدولة خواص أصحابه ليحضروه إلى بغداد ليتولى الخلافة، فانحدروا إليه، وشغب الديلم ببغداد، ومنعوا من الخطبة، فقيل على المنبر: اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله، ولم يذكروا اسمه، وأرضاهم بهاء الدولة.
ولما وصل الرسل إلى القادر بالله كان تلك الساعة يحكي مناماً رآه تلك الليلة، وهو ما حكاه هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة قال: كنت أحضر عند القادر بالله كل أسبوع مرتين، فكان يكرمني، فدخلت عليه يوماً فوجدته قد تأهب تأهباً لم تجر به عادته، ولم أر منه ما ألفته من إكرامه، واختلفت بي الظنون، فسألته عن سبب ذلك، فإن كان لزلة مني اعتذرت عن نفسي. فقال: بل رأيت البارحة في منامي كأن نهركم هذا، نهر الصليق، قد اتسع، فصار مثل دجلة، دفعات، فسرت على حافته متعجباً منه، ورأيت قنطرة عظيمة، فقلت: من قد حدث نفسه بعمل هذه القنطرة على هذا البحر العظيم؟ ثم صعدتها، وهي محكمة، فبينا أنا عليها أتعجب منها إذ رأيت شخصاً قد تأملني من ذلك الجانب، فقال: أتريد أن تعبر؟ قلت نعم فمد يده حتى وصلت إلي، فأخذني وعبرني، فهالني وتعاظمني فعله، قلت: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، وهذا الأمر صائر إليك، ويطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي وشيعتي.
فما انتهى القادر إلى هذا القول حتى سمعنا صياح الملاحين وغيرهم، وسألنا عن ذلك، وإذا هم الواردون إليه لإصعاده ليتولى الخلافة، فخاطبته بإمرة المؤمنين وبايعته، وقام مهذب الدولة بخدمته أحسن قيام، وحمل إليه من المال وغيره ما يحمله كبار الملوك للخلفاء وشيعه. فسار القادر بالله إلى بغداد، فلما دخل جبل انحدر بهاء الدولة وأعيان الناس لاستقباله، وساروا في خدمته، فدخل دار الخلافة ثاني عشر رمضان، وبايعه بهاء الدولة والناس، وخطب له ثالث عشر رمضان، وجدد أمر الخلافة، وعظم ناموسها، وسيرد من أخباره، إن شاء الله تعالى، وما يعلم به ذلك، وحمل إليه بعض ما نهب من دار الخلافة، وكانت مدة مقامه في البطيحة سنتين وأحد عشر شهراً ولم يخطب له في جميع خراسان، كانت الخطبة فيها للطائع لله.

.ذكر ملك خلف بن أحمد كرمان:

في هذه السنة أنفذ خلف بن أحمد، صاحب سجستان، وهو ابن بانوا بنت عمرو بن الليث الصفار، ابنه عمراً إلى كرمان فملكها.
وكان سبب ذلك أنه كان لما قوي أمره، وجمع الأموال الكثيرة، حدث نفسه بملك كرمان، ولم يتهيأ له ذلك لهدنة كانت بينه وبين عضد الدولة. فلما مات عضد الدولة، وملك شرف الدولة، واستقر أمره وانتظم، وأمن ملكه، لم يتحرك بشيء من ذلك. فلما توفي شرف الدولة، واضطرب ملوك بني بويه، ووقع الخلف بين صمصام الدولة وبهاء الدولة، قوي طمعه، وانتهز الفرصة، وجهز ولده عمراً، وسيره في عسكر كثير إلى كرمان، وبها قائد يقال له تمرتاش كان قد استعمله شرف الدولة، فلم يشعر تمرتاش إلا وعمرو قد قاربه، فلم يكن له ولمن معه حيلة إلا الدخول إلى بردسير، وحملوا ما أمكنهم حمله، وغنم عمروا الباقي، وملك كرمان ما عدا بردسير، وصادر الناس وجبى الأموال.
فلما وصل الخبر إلى صمصام الدولة، وهو صاحب فارس، جهز العساكر وسيرها إلى تمرتاش، وقدم عليهم قائداً يقال له أبو جعفر، وأمره بالقبض على تمرتاش عند الاجتماع به، لأنه اتهمه بالميل إلى أخيه بهاء الدولة. فسار أبو جعفر، فلما اجتمع بتمرتاش أنزله عنده بعلة الاجتماع على ما يفعلانه،! وقبض عليه وحمله إلى شيراز، فسار أبو جعفر بالعسكر جميعه يقصد عمرو ابن خلف ليحاربه، فالتقوا بدارزين واقتتلوا، فانهزم أبو جعفر والديلم، وعادوا على طريق جيرفت.
وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة وأصحابه، فانزعجوا لذلك، ثم اجمعوا أمرهم على إنفاذ العباس بن أحمد في عسكر أكثر من الأول، فسيروه في عدد كثير وعدة ظاهرة، فسار حتى بلغ عمراً، فالتقوا بقرب السيرجان، واقتتلوا فكانت الهزيمة على عمرو بن خلف وأسر جماعة من قواده وأصحابه، وكان هذا في المحرم سنة اثنتين وثمانين، وعاد عمرو إلى أبيه بسجستان مهزوماً، فلما دخل عليه لامه ووبخه، ثم حبسه أياماً، ثم قتله بين يديه وتولى غسله والصلاة عليه، ودفنه في القلعة. فسبحان الله ما كان أقسى قلب هذا الرجل مع علمه ومعرفته! ثم إن صمصام الدولة عزل العباس عن كرمان واستعمل عليها أستاذ هرمز، فلما وصل إلى كرمان خافه خلف بن أحمد، فكاتبه في تجديد الصلح، واعتذر عن فعله، فاستقر الصلح، وأنفذ خلف قاضياً كان بسجستان يعرف بأبي يوسف كان له قبول عند العامة والخاصة، ووضع عليه إنساناً يكون معه وأمره أن يسقيه سماً إذا صار عند أستاذ هرمز ويعود مسرعاً ويشيع بأن أستاذ هرمز قتله.
فسار أبو يوسف إلى كرمان، فصنع له أستاذ هرمز طعاماً، فحضره وأكل منه، فلما عاد إلى منزله سقاه ذلك الرجل سماً فمات منه، وركب جمازة وسار مجداً إلى خلف، فجمع له خلف وجوه الناس ليسمعوا له، فذكر أن أستاذ هرمز قتل القاضي أبا يوسف، وبكى خلف وأظهر الجزع عليه، ونادى في الناس بغزو كرمان والأخذ بثأر أبي يوسف، فاجتمع الناس واحتشدوا، فسيرهم مع ولده طاهر، فوصلوا إلى نرماسير، وبها عسكر الديلم، فهزموهم وأخذوا البلد منهم.
ولحق الديلم بجيرفت، فاجتمعوا بها، وجعلوا ببردسير من يحميها، وهي أصل بلاد كرمان ومصرها، فقصدها طاهر وحصرها ثلاثة أشهر، فضاق بأهلها، وكتبوا إلى أستاذ هرمز يعلمونه حالهم، وأنه إن لم يدركهم سلموا البلد. فركب الخطر وسار مجداً في مضايق وجبال وعرة، حتى أتى بردسير، فلما وصل إليها رحل طاهر ومن معه عنها، وعادوا إلى سجستان، واستقرت كرمان للديلم، وكان ذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.

.ذكر عصيان بكجور على سعد الدولة بن حمدان وقتله:

لما وصل بكجور إلى الرقة منهزماً من عساكر مصر بدمشق وأقام، على ما ذكرناه، واستولى على الرحلة وما يجاور الرقة، راسل الملك بهاء الدولة ابن بويه بالانضمام إليه، وكاتب أيضاً باذاً الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه، وراسل سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، صاحب حلب، بأن يعود إلى طاعته على قاعدته الأولى ويقطعه منه مدينة حمص كما كانت له، فليس فيهم من أجابه إلى شيء مما طلب، فبقي في الرقة يراسل جماعة رفقاء من مماليك سعد الدولة، ويستميلهم، فأجابوه إلى الموافقة على قصد بلد سعد الدولة، وأخبروه أنه مشغول بلذاته وشهواته عن تدبير الملك؛ فأرسل حينئذ بكجور إلى العزيز بالله، صاحب مصر، يطمعه في حلب، ويقول له إنها دهليز العراق، ومتى أخذت كان ما بعدها أسهل منها، ويطلب الإنجاد بالعساكر. فأجابه العزيز إلى ذلك وأرسل إلى نزال، والي طرابلس، وإلى ولاة غيرها من البلاد الشامية يأمرهم بتجهيز العساكر مع نزال إلى بكجور، والتصرف على ما يأمرهم به من قتال سعد الدولة وقصد بلاده.
وكتب عيسى بن نسطورس النصراني، وزير العزيز، إلى نزال يأمره بمدافعة بكجور، وإطماعه في المسير إليه، فإذا تورط في قصد سعد الدولة تخلى عنه.
وكان السبب في فعل عيسى هذا ببكجور أنه كان بينه وبين بكجور عداوة مستحكمة، وولي الوزارة بعد وفاة ابن كلس، فكتب إلى نزال ما ذكرناه. فلما وصل أمر العزيز إلى نزال بإنجاد بكجور كتب إليه يعرفه ما أمر به من نجدته بنفسه وبالعساكر معه، وقال له بكجور: مسيرك عن الرقة يوم كذا، ومسيري أنا عن طرابلس يوم كذا، ويكون اجتماعنا على حلب يوم كذا؛ وتابع رسله إليه بذلك، فسار مغتراً بقوله إلى بالس، فامتنعت عليه، فحصرها خمسة أيام فلم يظفر بها فسار عنها.
وبلغ الخبر بمسير بكجور إلى سعد الدولة، فسار عن حلب ومعه لؤلؤ الكبير، ومولى أبيه سيف الدولة، وكتب إلى بكجور يستميله ويدعوه إلى الموادعة، ورعاية حق الرق والعبودية، ويبذل له أن يقطعه من الرقة إلى حمص، فلم يقبل منه ذلك.
وكان سعد الدولة قد كاتب الوالي بأنطاكية لملك الروم يستنجده، فسير إليه جيشاً كثيراً من الروم، وكاتب أيضاً من مع بكجور من العرب يرغبهم في الإقطاع، والعطاء الكثير، والعفو عن مساعدتهم بكجور، فمالوا إليه، ووعدوه الهزيمة بين يديه، فلما التقى العسكران اقتتلوا، واشتد القتال، فلما اختلط الناس في الحرب وشغل بعضهم ببعض عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه، واستأمنوا إلى سعد الدولة، فلما رأى بكجور ذلك اختار من شجعان أصحابه أربعمائة رجل، وعزم على أ، يقصد موقف سعد الدولة ويلقي نفسه عليه، فإما له وإما عليه، فهرب واحد ممن حضر الحال إلى لؤلؤ الكبير وعرفه ذلك، فطلب لؤلؤ من سعد الدولة أن يتحرك من موقفه ويقف مكانه، فأجابه إلى ذلك بعد امتناع. فحمل بكجور ومن معه، فوصلوا إلى موقف لؤلؤ بعد قتال شديد عج الناس منه واستعظموه كلهم، فلما رأى لؤلؤاً ألقى نفسه عليه وهو يظنه سعد الدولة، فضربه على رأسه، فسقط إلى الأرض، فظهر حينئذ سعد الدولة وعاد إلى موقفه، ففرح به أصحابه وقويت نفوسهم، وأحاطوا ببكجور وصدقوه القتال، فمضى منهزماً هو وعامة أصحابه، وتفرقوا، وبقي منهم معه سبعة أنفس، وكثر القتل والأسر في الباقين.
ولما طال الشوط ببكجور ألقى سلاحه وسار، فوقف فرسه، فنزل عنه وسار راجلاً، فلحقه نفر من العرب، فأخذوا ما عليه، وقصد بعض العرب فنزل عليه وعرفه نفسه، وضمن له حمل بعير ذهباً ليوصله إلى الرقة، فلم يصدقه لبخله المشهور عنه، فتركه في بيته وتوجه إلى سعد الدولة فعرفه أن بكجور عنده، فحكمه سعد الدولة في مطالبه، فطلب مائتي فدان ملكاً، ومائة ألف درهم، ومائة جمل تحمل له حنطة، وخمسين قطعة ثياباً، فأعطاه ذلك أجمع وزيادة وسير معه سرية، فتسلموا بكجور وأحضروه عند سعد الدولة، فلما رآه أمر بقتله، فقتل، ولقي عاقبة بغيه وكفره. إحسان مولاه.
فلما قتله سعد الدولة سار إلى الرقة فنازلها، وبها سلامة الرشيقي، ومعه أولاد بكجور وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزير بكجور، فسلموا البلد إليه بأمان وعهود أكدوها وأخذوها عليه لأولاد بكجور وأموالهم، وللوزير المغربي، ولسلامة الرشيقي، ولأموالهم، فلما خرج أولاد بكجور بأموالهم رأى سعد الدولة ما معهم، فاستعظمه واستكثره.
وكان عند القاضي ابن أبي الحصين، فقال سعد الدولة: ما كنت أظن أن بكجور يملك هذا جميعه؛ فقال له القاضي: لم لا تأخذه؟ فهو لكلأنه مملوك لا يملك شيئاً، ولا حرج عليك ولا حنث. فلما سمع هذا أخذ المال جميعه وقبض عليهم، وهرب الوزير المغربي إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، وكتب أولاد بكجور إلى العزيز يسألونه الشفاعة فيهم، فأرسل إليه يشفع فيهم، ويأمره أن يسيرهم إلى مصر ويتهدده إن لم يفعل. فأهان الرسول وقال له: قل لصاحبك أنا سائر إليك. وسير مقدمته إلى حمص ليلحقهم.

.ذكر وفاة سعد الدولة بن حمدان:

فلما برز سعد الدولة ليسير إلى دمشق لحقه قولنج، فعاد إلى حلب ليتداوى، فزال ما به وعوفي، وعزم على العود إلى معسكره، وحضر عند إحدى سراريه فواقعها فسقط عنها وقد فلج وبطل نصفه، فاستدعى الطبيب، فقال له: أعطني يدك لآخذ محبسك؛ فأعطاه اليسرى، فقال: أعطني اليمين؛ فقال: لا تركت لي اليمين يميناً، يعني نكثه بأولاد بكجور هو الذي أهلكه، وقد ذكر ذلك، وندم عليه حيث لم تنفعه الندامة، وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام ومات بعد أن عهد إلى ولده أبي الفضائل، وصى إلى لؤلؤ به وبسائر أهله.
فلما توفي قام أبو الفضائل، وأخذ له لؤلؤ العهد على الأجناد، وتراجعت العساكر إلى حلب.
وكان الوزير أبو الحسن المغربي قد سار من مشهد علي، عليه السلام، إلى العزيز بمصر، وأطمعه في حلب، فسير جيشاً وعليهم منجوتكين أحد أمرائه إلى حلب، فسار إليها في جيش كثيف فحصرها، وبها أبو الفضائل ولؤلؤ، فكتبا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه، وهو يقاتل البلغار، فأرسل بسيل إلى نائبه بأنطاكية يأمره بإنجاد أبي الفضائل، فسار في خمسين ألفاً، حتى نزل على الجسر الجديد بالعاصي، فلما سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل، وعبر إليهم العاصي، وأوقعوا بالروم فهزموهم وولوا الأدبار إلى إنطاكية، وكثر القتل فيهم.
وسار منجوتكين إلى إنطاكية، فنهب بلدها وقراها وأحرقها، وأنفذ أبو الفضائل إلى بلد حلب، فنقل ما فيه من الغلال، وأحرق الباقي إضراراً بعساكر مصر، وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها، فأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي وغيرهم وبذل لهم مالاً ليردوا منجوتكين عنهم، هذه السنة، بعلة تعذر الأقوات، ففعلوا ذلك، وكان منجوتكين قد ضجر من الحرب، فأجابهم إليه وسار إلى دمشق.
ولما بلغ الخبر إلى العزيز غضب وكتب بعود العسكر إلى حلب، وإبعاد المغربي، وأنفذ الأقوات من مصر في البحر إلى طرابلس، ومنها إلى العسكر، فنازل العسكر حلب، وأقاموا عليها ثلاثة عشر شهراً، فقلت الأقوات بحلب.
وعاد إلى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به، وقال له: متى أخذت حلب أخذت إنطاكية وعظم عليك الخطب. وكان قد توسط بلاد البلغار، فعاد وجد في السير، وكان الزمان ربيعاً، وعسكر مصر قد أرسل إلى منجوتكين يعرفه الحال، وأتته جواسيسه بمثل ذلك، فأخرب ما كان بناه من سوق وحمام وغير ذلك، وسار كالمنهزم عن حلب، ووصل ملك الروم فنزل على باب حلب، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ، وعاد إلى حلب، ورحل بسيل إلى الشام، ففتح حمص وشيزر ونهبهما، وسار إلى طرابلس فنازلها، فامتنعت عليه، وأقام عليها نيفاً وأربعين يوماً، فلما أيس منها عاد إلى بلاد الروم.
ولما بلغ الخبر إلى العزيز عظم عليه، ونادى في الناس بالنفير لغزو الروم، وبرز من القاهرة، وحدث به أمراض منعته، وأدركه الموت، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عزل المنصور، صاحب إفريقية، نائبه في البلاد يوسف، واستعمل بعده على البلاد أبا عبدالله محمد بن أبي العرب.
وفيها توفي القائد جوهر، بعد عزله، وجوهر هذا هو الذي فتح مصر للمعز العلوي.
وفيها قبض بهاء الدولة على وزيره أبي نصر سابور بالأهواز، واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف.
وفيها أيضاً قبض بهاء الدولة على أبي نصر خواشاذه وأبي عبدالله بن طاهر، بعد عوده من خوزستان، وكان سب قبضهما أن أبا نصر كان شحيحاً، فلم يواصل ابن المعلم بخدمه وهداياه، فشرع في القبض عليه.
وفيها هرب فولاذ زماندر من عند صمصام الدولة إلى الري، وكان سبب هربه أنه تحكم على صمصام الدولة تحكماً عظيماً أنف منه، فأراد القبض عليه، فعلم به فهرب منه.
وفيها كتب أهل الرحبة إلى بهاء الدولة يطلبون إنفاذ من يسلمون إليه الرحبة، فأنفذ خمارتكين الحفصي إلى الرحبة فتسلمها، وسار منها إلى الرقة، وبها بدر غلام سعد الدولة بن حمدان، فجرت بينهما وقعات، فلم يظفر بها، وبلغه اختلاف ببغداد، فعاد، فخرج عليه بعض العرب، فأخذوه أسيراً، ثم افتدى منهم بمال كثير.
وفيها حلف بهاء الدولة للقادر بالله على الطاعة، والقيام بشروط البيعة، وحلف له القادر بالوفاء والخلوص، وأشهد عليه أنه قلده ما وراء بابه.
وفيها كثرت الفتن بين العامة ببغداد، وزالت هيبة السلطنة، وتكرر الحريق في المحال، واستمر الفساد.
وفيها توفي قاضي القضاة عبيدالله بن أحمد بن معروف أبو محمد، ومولده سنة ست وثلاثمائة، وكان فاضلاً، عفيفاً، نزيهاً، وكان معتزلياً؛ ومحمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان أبو بكر المعروف بابن المقري الأصبهاني، وله ست وتسعون سنة، وهو راوي مسند أبي يعلى الموصلي عنه. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة:

.ذكر عود الديلم إلى الموصل:

كان بهاء الدولة قد أنفذا أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل، فملكها آخر سنة إحدى وثمانين، فاجتمعت عقيل، وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب، على حربه، فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد، حتى إنه كان يضع له كرسياً بين الصفين ويجلس عليه، فهابه العرب، واستمد من بهاء الدولة عسكراً، فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد، وكان مسيره أول هذه السنة، فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه، فعلم أبو جعفر إنه إن قبض عليه اختلف العسكر، وظفر به العرب، فتراجع في أمره.
وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدواً له، فسعى به عند بهاء الدولة، فأمر بقبضه، وكان بهاء الدولة أذناً يسمع ما يقال له ويفعل به، وعلم الوزير الخبر، فشرع في صلح أبي الذواد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد، فأشار عليه أصحابه باللحاق بأبي الذواد، فلم يفعل أنفةً، وحسن عهدٍ، فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قبض وقتل وكفي شره.
ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار، فقال له خواصه: ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك؟ فقال: إن ملكاً قرب رجلاً كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم، ثم فعل به هذا، لحقيق بأن تخاف ملابسته.
وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولاً إلى أبي الذواد، فأسره العرب، ثم أطلقوه فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد.